من كان يظن أنه لن يحيى حياته ككل البشر.. أو أن تكون حياته مميزة كما كان يقول أو تقول عيناه..؟ لست أدري بالضبط كيف كان يتحدث.. فصوته، إن كان منبعثا من فمه، بالكاد كان يصل مسمعي حين كان يتحدث.. كان هشا كجسده الممدد أمامي خافتا كأنه الضباب.. كان صدى صوته ينبع من بين ضلوعه ويخترقني ويخلفني في حالة لا أدري لها حلا.. تاهت الكلمات على لساني مذ بدأ يتحدث.. أي منذ التقينا...
سبعة أو ثمانية عقود من الزمان خلفت في ذاكرته، رغم مرضه وتهالكه، الكثير من الصور التي لا تمرض ولاتتعب.. تبقى تنخر في رأسه ليحاول، بقذفها إلى مسامع الآخرين، تخفيف وطأتها عنه، ولكنه لا يفلح.. لم يكن يذكر كم مضى له من الزمان على وجه البسيطة، حيث أن الصور والهم، فقط، ما يبقى في الذاكرة..
كان وحده ممددا على الفراش، حيث لا زوار ولا أطبـاء.. لا يمكن لي أن أنسى كيف استوقفني ليسألني عن أصلي.. يااااه كم يحن الدم للدم..! بسمته لم تفارق ذاكرتي كما كلماته التي بثها في داخلي كي لا أنسى حقه الذي أبدا لم ينسه.. رغم كل السنيــن.. والذي أصبح منذ سؤاله الأول عني.. حقــي..
كم بعث فيَّ الحنين، مع عذاب الغربة، للأرض والوطن والعودة.. تجاعيد وجهه، عيونه، لهجته، كلماته، بسمته القوية، ولغة جسده المنهك.. كله كان يتحدث، ويترك لبعضه مهمة التفاصيــل..
" لاجئ تربيع" كانت هويته التي عرفني بها حين سألته، بسذاجة طفلة ، عن المصير الذي خلفه هنا في أرض الغربة..
عاش التهجير مرتين، عاش المعاناة مرتين، عاش الإباء مرارا.. وعاش الألم عقودا.. وعشش الهم في فؤاده..
كواجبي، الهزلي، سألته عن سبب وجوده في المستشفى وما سبب مرض قلبه.. نظر متعجبا وكأنه ظنني سأعرفه بديهيــا.. لكنه سلّم وقال: " الهــمّ "!
صور الماضي المحفور في ذاكرته حفرا لا تمّحي، لم تكفه عن غرس ظلال صور تبعثها الشاشات المتلفزة تخبره عن ما آل إليــه المصيــر..
يستيقظ من أحلام العودة على أنبــاء وصور.. يستنشق عبير الوطن من خلال نوافذ الذاكرة المنغلقة، دوما، عن لحظات الفرح الضئيلة، التي ما كاد يحياها حتى بدأت تحتضر.. وينـام على أمل إشراق فجر العودة من جديد، بعد دعــاء يفجر فيه فيضانات الدمع المكبوتة في صدره والتي أبى، هو، أن يبعثها خارجا فتضعفه..
صبر أيوب صبره.. وأمل النصر لا يفارق كلامه أيا كان مصدره..
هواء الدنيا كله لا يعوضه عن نسمات أرضه التي كان يصحو ،كل صبــاح، لطيها بهمساته وصدى ضحكاته ورائحة العرق..
ناس الدنيا كلها لا تعوضه ضمة واحدة لأخيه الشهيد بحرارتها وعبقها.. وكلام الدنيا كله لا يمكن أن يحكي لأبناء الشهيد عن شيم أبيهم وبطولته..
ما ملّ أبدا من محادثتي عن قصص الماضي، رغم حاجته الماسة للراحة، بصوته الهرم وأمله الذي لا ينطفئ.. كأنها عادة يومية اتخذها كي لا يعطي لنفسه فرصا للنسيان..